المعلوم من الدين بالضرورة- بحث غائب وأهمية ملحة.

في غمرة نقاشٍ محتدم على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، انبرى الحديث عن مكفرات الإنسان، وما لا يُعدّ كذلك. أشرتُ حينها إلى أن العلماء قد أجمعوا على أن من جحد معلومًا من الدين بالضرورة، فقد كفر. فاجأني سؤال أحد المتداخلين: هل ثمة مؤلفٌ قد جمع شتات المعلوم من الدين بالضرورة؟ أخذتُ أمعن النظر، علّني أجد رسالةً أو كتابًا، أو حتى مبحثًا قد استوفى الموضوع حصرًا وتفصيلًا، ولكن دون جدوى. ثم استشرتُ ذوي الاختصاص، لعلّ أحدهم قد تناوله في مؤلفاته، فخاب مسعاي.
ويبقى السؤال معلقًا: ما السر وراء عدم تدوين هذا الموضوع الجلل، وحصره في مباحثه ومواده؟ إنه موضوع بالغ الأهمية والخطورة، إذْ عليه مدار الحكم بإيمان المرء أو كفره، فضلًا عن التداعيات القانونية التي تزخر بها الكتب الفقهية والعقدية، والمرتبطة بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة عن جحود وعناد. ورغم أن كتب العقيدة والفقه لا تخلو من هذا المصطلح، إلا أنه لم يحظَ بالعناية الكافية، ولم يُخدم في البحث العلمي كما خدمت موضوعات أخرى عبر التاريخ.
فقد تم تدوين قواعد اعتقادية وفقهية جمة، ووُضعت لها ضوابط وتعريفات دقيقة، تحدد المصطلح وشروطه، بينما هذا الموضوع الخطير والحيوي لا يزال مهمشًا، ولا يجد الاهتمام الكافي من البحث والكتابة المستفيضة، باستثناء بعض الدراسات الحديثة التي تسعى لتعريفه ووضع ضوابط له، دون الخوض في تفصيل مفرداته، علمًا بأن الوقوع في إحداها قد يخرج المرء من دينه، أو يُحكم عليه بذلك، مما يترتب عليه أحكام وتصورات بالغة الخطورة.
صحيح أن تاريخنا المعاصر قد شهد دولًا تعيشُ بلا دساتير مكتوبة، وتعتمد على دستور شفوي، إلا أنه في نهاية المطاف، يمكن الرجوع إلى المرجعيات القادرة على الإفتاء في المسائل الدستورية. أما في موضوع المعلوم من الدين بالضرورة، فإننا لو أردنا الاحتكام إليه في الخلافات الفقهية والعقدية الدائرة في حياتنا العلمية، فسنقع في دوامة الاختلاف حول ما إذا كان الموضوع المطروح يُعدّ من المعلوم من الدين بالضرورة أم لا؟ وذلك لعدم وجود معيار أو ضابط أو تعريف محكم، يمكننا الاستناد إليه.
تتجلى أهمية باب "المعلوم من الدين بالضرورة" وخطورته، ليس فقط في مسائل الإيمان والكفر، بل أيضًا في مجال الاجتهاد الفقهي. فعند الحديث عن الإجماع، يرى الأصوليون أن الإجماع لا يتحقق إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، كما بين ذلك الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، وتبعه في ذلك أئمة كبار من أمثال ابن رشد، وابن حزم، وابن الوزير.
ومن المعاصرين الذين سلكوا هذا المسلك، الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لكتاب "الرسالة" للشافعي، وكتاب "الإحكام" لابن حزم، وكذلك الشيخ محمود شلتوت الذي صرح قائلًا: "ولا يخفى أن معنى ما ذكر الشافعي وابن حزم: أن الإجماع لا يكون إلا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيما كان طريق العلم به هو التواتر الذي يفيد قطعية الورود، وانتفاء الريب، فهذا هو الإجماع الذي تتمُّ به الحجة، ولا يصحّ أن يخالف، ولا ريب أن العمل في مثل هذا لا يكون عملًا بالإجماع من حيث هو إجماع؛ وإنما هو عمل بما تلقته الكافة عن الكافة، مما لا شبهة في ثبوته عن صاحب الشرع، وأن الإجماع فيه لم يكن إلا أثرًا من الثبوت على هذا الوجه، فلا يكون مصدرًا له، ولا أصلًا في ثبوته".
إشكالات تعريف وضبط المصطلح
يكمن أول التحديات التي تواجهنا في موضوع "المعلوم من الدين بالضرورة" في تعريفه وضبط مصطلحه، نظرًا لما ينطوي عليه من أهمية بالغة وخطورة جمة في آن واحد. ورغم وجود بعض التعريفات القديمة والحديثة، إلا أنها لا تخلو من الملاحظات والانتقادات. وقد حاول البعض استنباط ضابط من التعريف، ولكنه لم يكن محكمًا بالقدر الكافي. ومن بين هذه التعريفات، قول ابن حجر الهيتمي: "وهو أن يكون قطعيًا مشهورًا بحيث لا يخفى على العامة المخالطين للعلماء بأن يعرفوه بداهة من غير افتقار إلى نظر واستدلال".
أو قول الشنقيطي في كتابه "نشر البنود على مراقي السعود": "والمعلوم بالضرورة هو ما يعرفه الخواص والعوام، من غير قبول للتشكيك، فالتحق بالضروريات فبانَ لك أن الضرورة في قولهم: المعلوم من الدين بالضرورة ليس معناها استقلال العقل بالإدراك دون الدليل، لأن أحكام الشرع عند أهل السنة لا يعرف شيء منها إلا بدليل سمعي، ولكن لما كان ما اشترك خواص أهل الدين وعوامهم في معرفته مع عدم قبول التشكيك شبيهًا بالمعلوم ضرورة في عدم قبول التشكيك، وعموم العلم، أطلق عليه أنه معلوم بالضرورة لهذه المشابهة".
ويقول العطار: "وهو ما يعرف منه الخواص والعوام من غير قبول للتشكيك فالتحق بالضروريات، كوجوب الصلاة، والصوم، وحرمة الزنا، والخمر، "كافر قطعًا"؛ لأن جحده يستلزم تكذيب النبي، صلى الله عليه وسلم".
ومن المعاصرين الذين تناولوا هذا الموضوع، الشيخ الألباني الذي قال: "ومن صفات المعلوم من الدين بالضرورة أنه يكون مذكورًا إما في القرآن الكريم، أو في السنة المتواترة المتلقاة عند علماء المسلمين بالقبول، فإذا أنكر حكمًا مختلَفًا فيه، فلا يكفر به، وإنما يُخطّأ إذا كان مخالفًا للدليل".
يتضح مما سبق أن التعريفات والضوابط التي حاولت النقول السابقة الوصول إليها لم تكن محكمة ولا منضبطة على الرغم من المساعي المبذولة. ويثير التساؤل: كيف كانت مجالس القضاء في الماضي تحكم بالردة أو الكفر على من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، في ظل هذه الإشكالات المتعلقة بالتعريف والضوابط؟ بالإضافة إلى أن هذا الموضوع ليس محصورًا في باب أو كتاب معين، بل ما يذكر في الكتب الفقهية ما هو إلا نماذج للمعلوم من الدين بالضرورة، سواء اتفق عليها أو اختلف فيها.
محاولات سابقة
سعى الإمام ابن حجر الهيتمي إلى معالجة هذا الموضوع من زاوية القطعيات، فصنف رسالته "الإعلام بقواطع الإسلام"، إلا أنه توسع في ذلك، وذكر مسائل لا ترقى إلى مستوى القطعيات الشرعية التي يُكفر بها الإنسان. ولا يوجد كتاب آخر يحصر القطعيات، والتي تشكل مدخلًا أساسيًا للمعلوم من الدين بالضرورة. بل إن حديث الكثير من العلماء عن الكبائر، وأكبر الكبائر، يشهد توسعًا في هذا الباب، حيث تُعدّ أمورًا من الكبائر في مذهب ما، بينما لا تُعتبر كذلك في مذاهب أخرى.
وقد قام الإمام ابن المنذر بتأليف كتابه عن "الإجماع"، إلا أن العديد من الفقهاء المعاصرين له ومن جاءوا بعده، أبدوا ملاحظات جمة على عدّه لأمور ليست محل إجماع. ولكن وجود كتاب عن الإجماع يسعى إلى حصره وتدوينه، يساهم في إثراء النقاش حول هذا الموضوع، ومحاولة تنقيح ما كُتب فيه. إلا أن هذا لم يحدث مع المعلوم من الدين بالضرورة، على الرغم من خطورته البالغة وأهميته الفائقة.
إن هذا الموضوع يتطلب جهدًا بحثيًا مضنيًا في تعريفه وضوابطه، ثم استقراء مواضع المعلوم من الدين بالضرورة في ثنايا الكتب المختلفة. فنجد ما يتعلق به في كتب العقيدة، وكتب الفقه، وكتب الحديث، وكتب القراءات. فهناك من اعتبر القراءات المتواترة للقرآن الكريم معلومًا من الدين بالضرورة. ولا بد من مناقشة هذه المسألة من الناحيتين التأصيلية والتطبيقية.
إنه جهد محمود ومطلوب من المجامع العلمية المختلفة والجامعات الكبرى، بحيث يكون عملًا جماعيًا قدر المستطاع. فهو سيمثل الدستور الذي يلتزم به كل باحث أو مسلم فيما يحق له مناقشته وإنكاره، وما يُعد من مناطق المحرمات أو مناطق الخطر، وما هو القدر المسموح به من النقاش، وإلى أي مدى ودرجة يمكن أن يصل النقاش في موضوعات معينة، وما الفرق بين الإنكار وبين النقاش والاجتهاد في المعلوم من الدين بالضرورة؟
كل هذه الميادين العلمية تستدعي الاجتهاد الحثيث والسعي الدؤوب لتحقيقها علميًا، في علم لم يُدوّن بعدُ للأسف، ألا وهو: المعلوم من الدين بالضرورة.
